Sunday, July 20, 2014

أصناف الطالبين عند الغزالي

موقف الغزالي من الفلاسفة (ص: 7)
بعد خروجه من حال الشك ، وانطلاقاً مما حصله من معيار لليقين ، انحصرت عند الغزالي أصناف الطالبين في أربع فرق :
أ - علم الكلام :
بدأ الغزالي بدراسة علم الكلام ، وصنَّف فيه مؤلفات ، ووجده في نهاية الأمر " علماً وافياً بمقصوده هو غير وافٍ بمقصودي أنا ". لقد ألقى الله إلى عباده على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - عقيدة هي الحق ، كما نطق بمعرفته القرآن والأخبار . ثم لهج بعض المبتدعة أموراً مخالفة للسنّة وكادوا يشوشون العقيدة على أهلها ، فندب الله لهم طائفة من المتكلمين للذب عن العقيدة بكلام مرتب .

ب - الفلسفة :
وبعد الفراغ من علم الكلام ، ابتدأ الغزالي بعلم الفلسفة وحصَّل فيه أقوالهم وبراهينهم ، حتى فاقهم في فهم ما قالوه ، " فلا يقف على فساد علم من العلوم من لا يقف على منتهى ذلك العلم ، حتى يساوي أعلمهم في ذلك العلم ثم يزيد عليه ويجاوز درجته ، فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم من غور وغائلة . وإذا ذاك يمكن أن يكون ما يدعيه من فساد حقاً ".
وكان اطلاع الغزالي على علوم الفلسفة ، أثناء تدريسه في بغداد ، وقد أتى على منتهى علومهم في أقل من سنتين ، ثم واظب على التفكر فيها قريباً من سنة ، حتى انكشف له ما فيها من خداع وتلبيس .
ج - مذهب التعليم :
وبعد الفراغ من الفلسفة وأدلتها ، وجد الغزالي أن علمها غير وافٍ بما هو مطلوب ( اليقين ) وأن العقل ليس كاشفاً للغطاء ، وليس محيطاً بكل المُعضِلات . وكان قد سمع بمذهب التعليمية ، وأنهم يقولون أن اليقين يؤخذ من الإمام المعصوم ، فأراد الاطلاع على ما في كنانتهم . ثم جاءه أمر من الخليفة بالرد عليهم ، وكشْف حقيقة مذهبهم فألَّف في ذلك كتابه المعروف " المستظهري " الذي لامه بعضهم عليه ، لأنه قرّر فيه حججهم ورتبها ثم رد عليها ، وفي ذلك نشرٌ لمعتقدهم من حيث لا ندري . فلربما قرأ البعض ترتيب حججهم فاقتنع بها ، دون أن يقرأ الردود عليها . يجيب الغزالي على ذلك ، بأن شبهة الباطنية كانت قد انتشرت بين الناس ، وتعاظم أمرهم فكان لا بد من الرد عليهم ، وذلك لا يكون إلاً بفهم مذهبهم أولاً ، حتى نفوقهم في ذلك ، ومن ثم نبين تهافت أقوالهم .
د : الصوفية:
بعد الفراغ من العلوم السابقة ، اقبل الغزالي على طريق الصوفية ، فوجد أن طريقتهم تتم بعلم وعمل . وكان العلم أيسر عليه ، فحصَّله من مطالعة كتب مشاهيرهم ، كالمكي ، والمحاسبي ، والجنيد ، والشبلي ، وأبي يزيد البسطامي . وظهر له كل ذلك أنه لا يمكن الوصول إلى كنه مقاصدهم إلاَّ بالعمل ، أي بالذوق والمشاهدة وتبدل الصفات والأحوال . فالفرق كبير بين أن تكون سكراناً ، وبين أن تعرف حد السكر ،وبين أن تكون شبعاناً ، وبين أن تعرف حد الشبع . لقد علم يقيناً أنهم أرباب أحوال وليسوا بأصحاب أقوال ، والمسألة ليست بهذه السهولة ، فإن الدخول في طريقتهم يقتضي التخلي عن أمور كثيرة ، والتسلح بأمور لا يمكن دخول ذلك الدهليز بدونها .
وكان قد حصل معه إيمان يقيني بالله وباليوم الآخر وبالنبوّة ، وظهر عنده أنه غير طامع بأمور الدنيا ، فما باله لا يُقرَّر ؟.

يصف لنا الغزالي أحواله ، فيرى أنها غير نافعة في حق الله تعالى ، فهو منغمس في العلائق ، ويصف لنا أعماله وأحسنها التدريس والتعليم ، وهو فيها مقبلٌ على علوم غير مهمة ، ومحرَّكها وباعثها طلب الجاه وانتشار الصيت . فلم يزل يتفكر في كل ذلك وهو متردد بين رغبات الدنيا ودواعي الآخرة ، بين وساوس الشيطان ، ومنادي الإيمان ، وقد دام الأمر قريباً من ستة أشهر . وفي نهاية المطاف ، التجأ الغزالي إلى الله التجاء المضطر ، فأجابه المجيب إذا دعاه ، وسهَّل على قلبه الإعراض عن الجاه والمال والأهل والولد والأصحاب .

وأظهر هو أمر الخروج إلى مكة وهو يدبر أمر السفر إلى الشام ، وذلك مخافة أن يطلع الخليفة وجملة الأصحاب على عزمه البقاء في الشام فيحاولون ثنيه . وخروج الغزالي من بغداد بعد أن تخلَّى عن كل شيء ، ثم دخل إلى الشام وأقام فيها قريباً من سنتين في عزلة وخلوة ، ورياضة ومجاهدة ، معتكفاً في مسجد دمشق ، حيث يدخل إلى منارة المسجد ويغلق بابها على نفسه .

ثم رحل بعدها إلى القدس ، إلى المسجد الأقصى ، ومن ثمَّ تحركت فيه داعية الحج ، فسار إلى الحجاز.
رغم كل هذه العزلة ، بقيت هواجس الدنيا تُشغِل بال الغزالي ، وتشوَّش عليه خلوته .

وقد دامٍ الأمر عشر سنين ، انكشف له من خلالها أمور لا تحصى . فقد علم يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله خاصة ، وأن سيرتهم أحسن السيَر ، وأن أخلاقهم أزكى الأخلاق ، " بل لو جُمِعَ عقل العقلاء وحكمة الحكماء ، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ليغيروا شيئاً من سيرهم وأخلاقهم ، ويبدلوه بما هو خير منه ، لم يجدوا إليه سبيلاً " إلا أن الكشف الحقيقي والأهم هو ما ظهر له ، من أن طريقة الصوفية لازمة من نور النبوّة .فجميع ما يقوم به المتصوفون من حركات وسكنات، في ظاهرها وباطنها ، " مقتبسة من نور مشكاة النبوة ، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نورٌ يُستضاء به " .

No comments: