موقف الغزالي من الفلاسفة (ص: 7)
بعد خروجه من حال الشك ، وانطلاقاً مما حصله من معيار لليقين ، انحصرت
عند الغزالي أصناف الطالبين في أربع فرق :
أ - علم الكلام :
بدأ الغزالي بدراسة علم الكلام ، وصنَّف فيه مؤلفات ، ووجده في نهاية الأمر
" علماً وافياً بمقصوده هو غير وافٍ بمقصودي أنا ". لقد ألقى الله إلى عباده
على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - عقيدة هي الحق ، كما نطق بمعرفته القرآن والأخبار
. ثم لهج بعض المبتدعة أموراً مخالفة للسنّة وكادوا يشوشون العقيدة على أهلها ، فندب
الله لهم طائفة من المتكلمين للذب عن العقيدة بكلام مرتب .
ب - الفلسفة :
وبعد الفراغ من علم الكلام ، ابتدأ الغزالي بعلم الفلسفة وحصَّل فيه أقوالهم
وبراهينهم ، حتى فاقهم في فهم ما قالوه ، " فلا يقف على فساد علم من العلوم من
لا يقف على منتهى ذلك العلم ، حتى يساوي أعلمهم في ذلك العلم ثم يزيد عليه ويجاوز درجته
، فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم من غور وغائلة . وإذا ذاك يمكن أن يكون ما
يدعيه من فساد حقاً ".
وكان اطلاع الغزالي على علوم الفلسفة ، أثناء تدريسه في بغداد ، وقد أتى
على منتهى علومهم في أقل من سنتين ، ثم واظب على التفكر فيها قريباً من سنة ، حتى انكشف
له ما فيها من خداع وتلبيس .
ج - مذهب التعليم :
وبعد الفراغ من الفلسفة وأدلتها ، وجد الغزالي أن علمها غير وافٍ بما هو
مطلوب ( اليقين ) وأن العقل ليس كاشفاً للغطاء ، وليس محيطاً بكل المُعضِلات . وكان
قد سمع بمذهب التعليمية ، وأنهم يقولون أن اليقين يؤخذ من الإمام المعصوم ، فأراد الاطلاع
على ما في كنانتهم . ثم جاءه أمر من الخليفة بالرد عليهم ، وكشْف حقيقة مذهبهم فألَّف
في ذلك كتابه المعروف " المستظهري " الذي لامه بعضهم عليه ، لأنه قرّر فيه
حججهم ورتبها ثم رد عليها ، وفي ذلك نشرٌ لمعتقدهم من حيث لا ندري . فلربما قرأ البعض
ترتيب حججهم فاقتنع بها ، دون أن يقرأ الردود عليها . يجيب الغزالي على ذلك ، بأن شبهة
الباطنية كانت قد انتشرت بين الناس ، وتعاظم أمرهم فكان لا بد من الرد عليهم ، وذلك
لا يكون إلاً بفهم مذهبهم أولاً ، حتى نفوقهم في ذلك ، ومن ثم نبين تهافت أقوالهم .
د : الصوفية:
بعد الفراغ من العلوم السابقة ، اقبل الغزالي
على طريق الصوفية ، فوجد أن طريقتهم تتم بعلم وعمل . وكان العلم أيسر عليه ،
فحصَّله من مطالعة كتب مشاهيرهم ، كالمكي ، والمحاسبي ، والجنيد ، والشبلي ، وأبي
يزيد البسطامي . وظهر له كل ذلك أنه لا يمكن الوصول إلى كنه مقاصدهم إلاَّ بالعمل
، أي بالذوق والمشاهدة وتبدل الصفات والأحوال . فالفرق كبير بين أن تكون سكراناً ،
وبين أن تعرف حد السكر ،وبين أن تكون شبعاناً ، وبين أن تعرف حد الشبع . لقد علم
يقيناً أنهم أرباب أحوال وليسوا بأصحاب أقوال ، والمسألة ليست بهذه السهولة ، فإن
الدخول في طريقتهم يقتضي التخلي عن أمور كثيرة ، والتسلح بأمور لا يمكن دخول ذلك
الدهليز بدونها .
وكان قد حصل معه إيمان يقيني بالله وباليوم الآخر وبالنبوّة ،
وظهر عنده أنه غير طامع بأمور الدنيا ، فما باله لا يُقرَّر ؟.
يصف لنا الغزالي أحواله ، فيرى أنها غير
نافعة في حق الله تعالى ، فهو منغمس في العلائق ، ويصف لنا أعماله وأحسنها التدريس
والتعليم ، وهو فيها مقبلٌ على علوم غير مهمة ، ومحرَّكها وباعثها طلب الجاه
وانتشار الصيت . فلم يزل يتفكر في كل ذلك وهو متردد بين رغبات الدنيا ودواعي
الآخرة ، بين وساوس الشيطان ، ومنادي الإيمان ، وقد دام الأمر قريباً من ستة أشهر
. وفي نهاية المطاف ، التجأ الغزالي إلى الله التجاء المضطر ، فأجابه المجيب إذا
دعاه ، وسهَّل على قلبه الإعراض عن الجاه والمال والأهل والولد والأصحاب .
وأظهر
هو أمر الخروج إلى مكة وهو يدبر أمر السفر إلى الشام ، وذلك مخافة أن يطلع الخليفة
وجملة الأصحاب على عزمه البقاء في الشام فيحاولون ثنيه . وخروج الغزالي من بغداد
بعد أن تخلَّى عن كل شيء ، ثم دخل إلى الشام وأقام فيها قريباً من سنتين في عزلة
وخلوة ، ورياضة ومجاهدة ، معتكفاً في مسجد دمشق ، حيث يدخل إلى منارة المسجد ويغلق
بابها على نفسه .
ثم رحل بعدها إلى القدس ، إلى المسجد الأقصى ، ومن ثمَّ تحركت
فيه داعية الحج ، فسار إلى الحجاز.
رغم كل هذه العزلة ، بقيت هواجس الدنيا
تُشغِل بال الغزالي ، وتشوَّش عليه خلوته .
وقد دامٍ الأمر عشر سنين ، انكشف له من
خلالها أمور لا تحصى . فقد علم يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله خاصة ،
وأن سيرتهم أحسن السيَر ، وأن أخلاقهم أزكى الأخلاق ، " بل لو جُمِعَ عقل
العقلاء وحكمة الحكماء ، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ليغيروا شيئاً
من سيرهم وأخلاقهم ، ويبدلوه بما هو خير منه ، لم يجدوا إليه سبيلاً " إلا أن
الكشف الحقيقي والأهم هو ما ظهر له ، من أن طريقة الصوفية لازمة من نور النبوّة
.فجميع ما يقوم به المتصوفون من حركات وسكنات، في ظاهرها وباطنها ، " مقتبسة من
نور مشكاة النبوة ، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نورٌ يُستضاء به " .
No comments:
Post a Comment