في ذكر العدل والسياسة وذكر الملوك وسيرهم
إعلم وتيقّن أن الله سبحانه وتعالى اختار من بني آدم طائفتين وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليبينوا للعباد على عبادته الدليل، ويوضحوا لهم إلى معرفته السبيل، واختار الملوك لفظ العباد من اعتداء بعضهم على بعض، وملكهم أزمة الإبرام والنقض، فربط بهم مصالح خلقه في معايشهم بحكمته، وأحَلّهم أشرف محل بقدرته، كما يسمع في الأخبار السلطان ظل الله في أرضه.فينبغي أن يُعلم أن من أعطاه الله درجة الملوك وجعله ظله في الأرض فإنه يجب على الخلق محبته، ويلزمهم متابعته وطاعته، ولا يجوز لهم معصيته ومنازعته. قال الله تعالى: )يا أيُها الذين آمنُوا أطِيعُوا الله وأطِيعُوا الرسُول وأوُلي الأمرَ مِنكُم( فينبغي لكل من آتاه الله الدين أن يحب الملوك والسلاطين، وأن يعطيهم فيما يأمرون ويعلم أن الله تعالى يعطي السلطنة والمملكة وأنه يؤتي ملكه من يشاء كما قال في محكم تنزليه: )تُؤتِي المُلك مَن تشَاء وتنزَع المُلك مِمن تشَاء وتُعِزُ مَن تشَاء وتُذِلُ مَن تشَاء بيدِك الخير إنِك على كُل شيء قَدير(.
والسلطان العادل من عدل بين العباد، وحذر من الجور والفساد، والسلطان الظالم شؤم لا يبقى ملكه ولا يدوم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: )الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم( . وفي التواريخ أن المجوس ملكوا العالم أربعة آلاف سنة وكانت المملكة فيهم وإنما دامت المملكة بعدلهم في الرعية، وحفظهم بالسوية، وإنهم ما كانوا يرون الظلم والجور في دينهم وملتهم جائز وعمروا بعدلهم البلاد، وأنصفوا العباد. وقد جاء في الخبر أن الله جلّ ذكره أوحى إلى داود عليه السلام أن آنْهِ قومك عن سب ملوك العجم فإنهم عمروا الدنيا وأوطنوها عبادي. فينبغي أن تعلم أن عمارة الدنيا وخرابها من الملوك فإذا كان السلطان عادلاً عمرت الدنيا وأمنت الرعايا كما كانت عليه في عهد أزدشير وأفريدون وبهرام كور وكسرى أنو شروان. وإذا كان السلطان جائراً خربت الدنيا كما كانت في عهد الضحاك وافراسيان وبرزدكنها الخاطىء وأمثال هؤلاء، وهكذا إلى أن استولى أهل الإسلام وغلبوا العجم وأزاحوهم عن بلادهم وعن الملك وقويت دولة دين الإسلام، ببركة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وذلك في عهد خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
فأعلم وتيقَن أن هؤلاء الملوك الذين ذكرناهم كانوا أصحاب الدنيا وملوك الأرض وأنهم بلغوا من الدنيا مرادهم، وصرفوا باللذات أوقاتهم، ومضوا وبقيت أسماؤهم وسماتهم، كما عددناه من أفعالهم، وأوردناه من خصالهم، لتعلم أن الناس إنما هم الحديث الذي يبقي بعدهم فكل إنسان يذُكر بالذي كان يفعله، وينسب إليه ما كان يعمله، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
فيجب على الإنسان أن يزرع بذر الإحسان، وأن يبقى عن نفسه العيوب الفاحشات، والخطايا الموبقات، لا سيما الملوك ليبقى بعدهم حسن الإِسم، وصالح الرسم، لئلا يذكر بالقبيح، وقد حل بالضريح، كما قال الشاعر:
وإن بَدا مِنك فـعُـد وانـدم | | اهرُب مِن الذَنبِ وتُب يا فَتَى |
ومن مساوُي الدهرُ خِف تسَلم | | وانفِ عن نفسِك ما شَانَـهـا |
فكُن حَديثاً حسنـاً تـغـنـمُ | | وبُعدُك يُبقِى الذِكرَ لا غَـيره |
يقال أن ذكر الرجال بعدهم حياتهم الثانية في الدنيا فواجب على العقلاء قراءة أخبار الملوك والنظر في أحوال هذه الدنيا القليل وفاؤها، والكثير بلاؤها، وأن لا يعقلوا قلوبهم بأمانيها فإنها لا يبقى عليها صالح، ولا يسلم فيها طالح. وليجتهد العاقل أن لا يكثر خصومه فإن أمر الخصوم صعب هائل، والباري تعالى حاكم عادل، لا بد أن ينصف يوم القيامة بين الخصوم، ويأخذ من الظالم للمظلوم، فلا تساوي الدنيا بأسرها، أن تجعل الناس خصوماً لأجلها كما جاء في الحكاية.
No comments:
Post a Comment